“الصندوق السيادي”… بيع الدولة أم وقف الانهيار المالي؟
فيما تتصدر مشاورات الحكومة عن مداورة ومثالثة ويغوص العقل اللّبناني في الشروط والشروط المضادة وتفاصيل بعيدة عن عمق مأزق الكيان اللّبناني، الذي يتطلب حكومة مهمتها الإصلاحات وفتح أبواب الخارج، وتسهيل المساعدات. ثمة ملفات اقتصادية وضعتها المبادرة الفرنسية تحت صفة العاجل، ترغب باريس في معالجة عثراتها قبل عقد مؤتمر اقتصادي حول لبنان في تشرين الأول المقبل.
وتحت هذه العناوين جاءت زيارة وفد جمعية المصارف للعاصمة الفرنسية شملت لقاءات مع مسؤولين فرنسيين أبرزهم المبعوث الفرنسي المكلّف متابعة نتائج مؤتمر “سيدر” بيار دوكان، ومساعد مدير الخزانة الفرنسية برتراند دومون. استمع الفرنسيون خلال الاجتماعات لتصوّرات المصارف حول الأزمة المالية قدمت ضمنها الأخيرة صكوك براءتها من حالة الإفلاس التي وصلت إليها البلاد.
ما استرعى انتباه اللّبنانيين، الحديث الذي سرّب عن ضرورة بيع الدولة بعض أملاكها لإدخال الدولار الطازج حفاظاً على أموال المودعين ولإلغاء إمكانية الاقتطاع منها. وتتلخص الفكرة باستحواذ المصارف على 1.1 مليار متر مربع من الممتلكات العقارية العامّة عبر إنشاء صندوق لتعويض خسائر المصارف. في محضر الاجتماع رحب الفرنسيون بالمقترح باعتبارها “فكرة جيدة”، وأيضاً “مجربة في الماضي لإعادة إعمار وسط بيروت عندما كان رفيق الحريري رئيساً للوزراء”.
تجربة مقلقة
التجربة بالنسبة للبنانيين كثر مقلقة لأنّ تجربة وسط بيروت لم تكن موفقة، لكن يجد محبذو الفكرة أنه لا بدّ من المحاولة فإذا وضعت الدولة بالأمانة أموالها غير المنقولة في الصندوق المشترك واستحصلت على أموال أجنبية مقابل رهنها لتمويل المصارف مع شرط عدم بيعها وتبديد قيمتها ودون أن ينخر الفساد فيها وتكون تحت رقابة دولية.
خطّة المصارف التي تقارب أصول الدولة ودورها في معالجة الخسائر، توضح طريقة التعامل مع هذه الأصول، لجهة حصرها ضمن صندوق يوضع بإدارة مصرف لبنان، ويكون بمثابة ضمانة لديون المصرف المركزي على الدولة اللبنانيّة. وكون المصرف المركزي مدين بدوره للمصارف، المدينة للمودعين، فالأصول ستكون في المحصّلة ضمانة لالتزامات القطاع المالي بأسره للمودعين. لكن إدارة مصرف لبنان لهذا الصندوق ليست محل إجماع ومرفوضة بالنسبة إلى الكتل السياسية.
ما هي أملاك الدولة العقارية؟
يشير القرار رقم 144 الصادر في 10 حزيران 1925 بوضوح إلى أنّ الأملاك العامة هي ليست فقط قطعة أرض بل هي جزء من السياسة الاقتصادية والاجتماعية للدولة. ويلحظ القانون أيضاً عدم قابلية الأملاك العمومية للبيع وإذا ما أريد بيعها أو بيع جزء منها، فذلك يستلزم أولاً إسقاط المراد بيعه من الملك العام إلى ملك الدولة الخاص، وبعد ذلك يجري البيع.
يبدو أنّ ثمّة اتفاق من فرقاء السياسة والاقتصاد على فكرة استخدام هذه الأملاك، وقد بدأ التداول بها منذ أعوام وفي مطلع هذا العام نوقشت الاقتراحات في مجلس النواب خلال اجتماعات لجنة المال النيابية، ويقول مصدر نيابي أن الفكرة “برزت في مسودات خطة الإصلاح الحكومي التي أدرجت الفكرة تحت عنوان “صندوق التعافي” لمعالجة الخسائر المالية والتعويض على المودعين” ولكن أن يكون الصندوق السيادي بإشراف هيئة مستقلة وليس مصرف لبنان”. وفي مقابلة مع صحيفة “نيويورك تايمز” أسرّ وزير المال غازي وزني أن من بين الإصلاحات المطلوبة لتجنيب الودائع خطر الاقتطاع أو الزوال، هو “إنشاء صندوق من أصول الدولة يتعين على المودعين شراؤها”.
الصندوق السيادي
ومن أبرز اقتراح عدد من السياسيين والخبراء والمصرفيين ومنهم نائب رئيس الحكومة السابق غسان حاصباني بإنشاء مؤسسة سيادية تتملك وتدير هذه الأملاك أو جزء منها من خلال وضع عدد من أصول الدولة في المؤسسة مثل شبكات الاتصالات والمرافئ والمطار وكازينو لبنان، إضافة إلى بعض المصالح العامة مثل مصالح المياه وغيرها، وبعض الملكيات العقارية التابعة للدولة مثل أراضي مصلحة السكك الحديد والنقل المشترك التي تبلغ مساحتها نحو 6.5 كيلومترات مربع وشركة طيران الشرق الأوسط والتي يمكن أن تصل قيمتها إلى نحو 20 مليار دولار. وتفتح هذه المؤسسة المجال أمام تحسين الخدمات والحدّ من الفساد وزيادة الإيرادات وجذب استثمارات خارجية، إلى جانب إعطاء الخيار للمودعين بالاكتتاب بالمؤسسة.
كما اقترح النائب نهاد المشنوق فرز الأملاك العامة إلى نحو مليون قطعة وبيعها ما يؤمن عائدات للدولة اللّبنانية بقيمة 50 مليار دولار توضع في صندوق سيادي. بدوره طالب رئيس جمعية المصارف سليم صفير ببيع الدولة جزء من ممتلكاتها وبأموال خارجية كي تسدّد الدولة ديونها للمصارف. ونوقشت اقتراحات أخرى باستخدام الأملاك العامة في المفاوضات مع حملة سندات الخزينة.
توزيع الخسائر بإنصاف
ثمّة حل جدّي ومدروس يحفظ الودائع بدون “هيركات” ويوزع الخسائر بإنصاف، كما يقول الخبير المالي والمصرفي نقولا شيخاني. الخطة تنطلق من أرقام “لازارد” التي وافق عليها صندوق النقد وتقوم على مبدأ إطفاء الخسائر بقيمة 43 مليار دولار بشكل منصف بين الدولة، ومصرف لبنان، والبنوك من دون المس بأموال المودعين، وتتوافق مع متطلبات صندوق النقد الدولي IMF.
“والحل يفترض إجراء تقييم شامل لديون الشركات والأفراد للمصارف التجاريّة المشكوك في تحصيلها وهي في تقديرنا لا تتجاوز 20% (علماً أنّ لازارد قدّرها بنسبة 35%). وإعادة هيكلة سندات الخزينة بالليرة من خلال تمديد آجالها الى 20 سنة بفوائد لا تتجاوز 1% (بدل 10% لفترة 5 سنوات) ما يخفّف عجز الدولة، ويخفّف خسائر المصارف والأفراد المكتتبين في السندات وأيضاً الضمان الاجتماعي”، بحسب شيخاني.
وفي عداد الخطة أيضاً إعادة رسملة البنوك والمحافظة على الأموال الآتية بالدولار من خلال تعميم مصرف لبنان الذي طلب منها زيادة رؤوس الأموال بنسبة 20%، بالإضافة إلى استرجاع المصارف ما لا يقل عن 5 مليارات منها من كبار مساهميها من الأرباح التي وزعتها بين عامي 2016 و2019”. ومن الخطوات المطلوبة رفع سعر الصرف إلى ٣٥٠٠، واستعادة الفوائد التي تجاوزت فوائد اليوروبوند والعمل على استرجاع الأموال المنهوبة بالتراضي كما حصل في فرنسا وفي البرازيل وغيرها.
أما أساس الخطة فهو إنشاء صندوق سيادي تحوّل إليه أصول الدولة غير المستثمرة أي العقارات فقط وذلك لإقفال ملف ديون الدولة لمصرف لبنان ومنح الدولة اللبنانيّة حقّ استرجاع هذه الأصول في غضون 10 سنوات عندما تتوافر لديها السيولة.
يجد شيخاني، الذي وضع هذا الحل في دراسة موسعة في شهر تموز الماضي، أنّ هذا الاجراء يخفف من عجز الدولة، من نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى المستوى الذي تقترحه منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD دون 100% دون المس بأموال المودعين ودون إفلاس البنوك بالتزامن مع إعادة هيكلة القطاع ليستعيد دوره في تمويل الاقتصاد بمشاريع انتاجيّة.
من قراءة الاقتراحات المقدمة للخروج من المأزق المالي، يبدو أنّ الجميع متفق على الاستفادة من أملاك الدولة لفرملة الديون ومنع الإفلاس المصرفي وتحريم المس بأموال المودعين، لكنّ الخلاف يبقى على تعريف الحلول والمرجعية المخولة إدارتها، في هذا الوقت يراكم لبنان الخسارات الفادحة.
رانيا برو